تواصل عاطفي

تواصل عاطفي 20251116 145748 0004

هناك ظاهرة أراها منتشرة بشكل أو بآخر في المجتمعات بشكل عام عربية كانت أم أجنبية، من الجيلين ما قبل الألفية “جيل إكس وجيل الطفرة السكانية”، وهي ظاهرة سلبية، لربما نستطيع وصفها بنقص التواصل العاطفي من جهة الأهالي تجاه أبنائهم.

أرى أن لهذه المشكلة أكثر من مسبب من وجهة نظري، أول هذه الأسباب هي أنهم ببساطة لم يتربوا على هذا، فالكثير من الجيل الصامت قبلهم لم ينقل إلى الجيلين الذي بعده الخبرة العاطفية الكافية إن صح التعبير، لربما للتغيرات الكبيرة التي حدثت للعالم في المنتصف الأول من القرن الماضي من حروب وغيرها دور في هذا الأمر، لذا كان جيل الآباء فيه من الشبه الكثير ممن قبله في هذا الجانب لعدم تعلمهم وتلقيهم التواصل العاطفي من الأساس من أهلهم بالشكل الكافي، كما أنه لم يكن هناك ذلك الإنفتاح التكنولوجي الكبير الذي يسمح بسهولة الانتشار الثقافي والمعرفي، مما يعني انحصار معرفة الكثيرين بما يتعلمونه من محيطهم والمقربين منهم.

ننتقل إلى النقطة الثانية والتي هي نتيجة للأولى، ولأن الكثير من الأهالي لم يتربوا على التواصل العاطفي مع الأبناء، لذا فهم لا يعرفون كيفية تقديمه للجيل الذي بعده كآبائهم، بل لا يرون أن هناك خطأً أصلاً من ناحيتهم في هذا الجانب، لأنهم لا يدركون أساساً غياب التواصل العاطفي لقلة شعورهم به من طرف آبائهم من قبل، فكيف سيعطيك ما لا يدرك أنه يجب عليه إعطاءه لك؟ الكثير فعلاً يظنون أنهم أنجزوا أتم الإنجاز بصرفهم على أبنائهم وتعليمهم وإطعامهم وكسوتهم، رغم عدم وجود تواصل مناسب على المستوى العاطفي، لذا تجدهم يستغربون إن كان إبنهم مكتئباً مثلاً وتجدهم يقولون جملاً على غرار: ما الذي يجعلك مكتئباً ألا تأكل وتشرب جيداً؟ وكأن الطعام والشراب والصرف المادي بشكل عام هو التربية، طبعاً جزء الدعم المادي مهم جداً لا أنكر أهميته، لكن اختزال التربية في هذا أو جعله أهم جزء فيها هو أمر خاطئ، وهو خلط حاصل عند الكثيرين.

أمّا السبب الثالث هو انشغال الكثير من الأهالي وعدم وجودهم كثيراً في المنزل من الأساس، ويمكننا تقسيمها لقسمين، الأول الإنشغال مجبراً لوجود الأعباء المادية مما يجعلهم يقضون أوقاتاً طويلة في العمل أو العمل في أكثر من وظيفة مما يجعلهم لا يختلطون بأبنائهم كثيراً، والثاني هو الإنشغال الاختياري، كأن يختار الأب أن ينشغل لساعات طويلة فوق عمله طلباً في مزيد من المال رغم كفاية ما عنده، وهو يظن أن في ذلك مصلحة عائلته، حيث أن المزيد من المال يعني مزيداً من الطعام! ومزيد من الرفاهيات والماديات، فيحصل الخلل هنا من ناحية عدم التوفيق بين الحياة العائلية والوظيفية، ثم يتفاجئ عندما يجلس مع أبنائه رغم اهتمامه المادي الشديد بهم أن علاقته بهم قريبة جداً من الرسمية، فهو لا يعرفهم ولا يعرفونه كثيراً بسبب غيابه الطويل الدائم، ولا وجود لتواصل كبير على المستوى العاطفي بينهم.

في النهاية أظن أن جيل الألفية بعدهم أصبح أكثر وعياً في هذا الجانب، وأن هذه المشكلة أقل في هذا الجيل وإن لم تزل موجودة، ولربما جيل زد هو أوعاهم في مسألة التواصل العاطفي هذه، وأرى أن هذا يرجع إلى زيادة وعي جيل الألفية قبلهم، وإلى الإنفتاح التكنولوجي الذي أدى إلى انتشار مفاهيم علم النفس وسهولة الوصول إلى المعلومات والخبرات المتنوعة بشكل عام، فأصبح هذا الجيل أكثر إدراكاً لهذا الخلل ويرغب بتغيير هذا الوضع في الجيل الذي يليه، بعد شعورهم هم بالأذى النفسي نتيجة قلة العاطفة الممنوحة لهم من قبل آبائهم، وإدراكهم أن هذا خطأ، وأن العاطفة شيء مهم لا يجب حرمان الأبناء منه ومن تعبير الأهل الواضح المباشر عنه، بلغاته الخمسة المعروفة، التلامس الجسدي كالأحضان، والكلام من حب وتشجيع وغيره، والهدايا، وتخصيص الوقت، وأعمال الخدمة من تقديم المساعدة بالأفعال.

اترك تعليقاً